بضعة خطوات بطيئة بين أشجار الغابة. صمت مطبق، يتخلله حفيف صامت لأوراق أشجار تعتذر بخجل عن تعكير سلام لحظة الهروب من المدينة. شهيق.. زفير.. ها هو تعب النهار يتبخر بين الأشجار.. شهيق و زفير اخرين، و تبدأ ساعات الجلوس الطويل خلف شاشة الكمبيوتر بالتلاشي.. لحظة تأمل..
اهتز الهاتف في جيبي.. سوريا تتصل. و عاد ذلك الاحساس بالحزن المفاجئ.
«شوف الايميل» و أغلق الخط سريعا كأنه يهرب من قطيع ذئاب جائع.
ترددت اصابعي قبل الضغط على شاشة هاتفي الزجاجية اللماعة.. هذه النافذة على عالم محمول من أخبار قتل و سلخ و تعذيب..
لا أريد أن أقرأ ما في الرسالة.. ازداد علو صوت حفيف الأشجار: ابق معنا.. اترك الدم بعيدا للحظة.. جايا، روح الطبيعة، تريدك معها لفترة أطول.. انها تحبك..
لكن سوريا اتصلت..
تحرك ابهامي يمنة و يسرة بحركات عصبية على هذه الشاشة التي اختفت لمعتها تحت آثار بصماتي.. و تكلمت سوريا..
مات غياث تحت التعذيب، و اقتلعت حنجرته من مكانها..
سكتت أوراق الأشجار.
أعدت الهاتف الى جيبي.. وتحركت اصابعي بحركة آلية مرتجفة الى الجيب الأخر.. كنت قد اقلعت عن التدخين كرمى لابني ذو الاشهر القليلة فأعادتني اليه سوريا صامتة باكية..
اشعلت السيجارة بيد مرتجفة، و استنشقت السم المحترق بمازوشية مجنونة ممزوجة بدموع جافة.. الى متى؟
انا لا أعرف غياث.. لم نلعب الورق سوية ولم نشرب شاي المساء الكسول مع الاصدقاء. لم أسمع باسمه الا قبل دقائق معدودة و ان كانت صورته قد حفرت في شبكية عيني و أبت أن تفارق.
هؤلاء هم اصدقائي اللذين خلقوا فجأة من عدم دموي جمعنا على حب أرض ابتعد بعضنا عنها وان لم يتركها.. هذه الاخوة السريالية لأشخاص لم تلتق بعضها من قبل، و ربما لن تلتقي ابدا..
انا لا أعرف غياث، و لكنني اعرفه كثيرا.. انه انا و انت و نحن و سوريا عندما نجلس القرفصاء سوية على حافة رصيف متهالك ننفث دخان حزننا سوية.. انه طموح شباب مكبل و مثقل بصخور بازلتية, أكثر سوادا من صخور حوران, و أكبر حجما من حجارة القلمون.. انه حلم ضاق بجدران بنيت حوله منذ زمن، و ارادة تاريخ لفظ غزاة و فاتحين .. انه شعب جمعه غضب و قهر لم يعد يستطيع احتماله، فرددت جدران دمشق القديمة صدى صرخاته .. «الشعب السوري ما بينذل» ..
أيام مضت على رحيل غياث.. و مئات غيره رحلوا وراءه مرددين شعار السلمية اللذي علت به حنجرة غياث اللتي اقتلعت.. و لا تزال مئات اخرى تنزل الى الساحات نفسها معاهدة اولئك اللذين رحلوا أن الدم غالي و لكن البلد أغلى.. و أن المخاض قاس و لكن لحظة الولادة قريبة..
جففت دموعي و مشيت متثاقلا باتجاه المنزل.. شعرت بالرغبة بالاعتذار.. بأن أقطع عهدا ما.. أن أكفر عن عدم موتي مع البقية.. و استمر هذا الصخب في داخلي اذ بدأت قدماي تتركان العشب الجاف عودة الى اسفلت الطريق البارد.. ولا زالت الأشجار في تلك الغابة تحكي قصة ذلك الغريب الأسمر اللذي جلس مرة على الأرض يبكي شخصا لم يعرفه، و يبكي بلدا يعرفها اليوم أكثر من قبل..
* تم نشرها أيضا في جريدة حريات : http://www.syrian-hurriyat.com/?p=323