تكاد لا تخلو جلسات النقاش اليومية لمؤيدي الثورة السورية من إشارة ساخرة أو آسفة إلى فشل اليسار السوري من تسجيل موقف مشرف في أحداث الربيع العربي الأخير.. و بالرغم من ظهور الكثيرون من الكتاب و الصحافيون والأدباء اليساريون الذين جاهروا بدعمهم للثورة منذ البداية، معرضين بذلك أنفسهم وأقاربهم لخطر إنتقام النظام مثل سمر يزبك، وياسين الحاج، صالح وبرهان غليون، وصبحي حديدي، وغيرهم... فإن عدداً أكبر من مثقفي الستينيات -الذين طالما تغنوا بحريات الشعب السوري السابقة- قد التزموا الصمت واتخذوا موقف الحياد من هذه التجربة الديموقراطية السورية الفريدة، في فترة كان أبناء شعبهم بحاجة لإنضمامهم إلى الحراك.
ولعل وقع هذه الإنزوائية البائسة التي يمر بها اليسار السوري هي أشد وأكثر ألماً على علمانيي ويساريي سوريا الشباب الذين رأوا نفسهم فجأة محض لوم أو تنديد لتقاعس تيارهم الفكري، الذي طالما حرك الثورات في الماضي، ومحل سخرية من أقرانهم الذين لم يملوا من تذكيرهم كيف تكلم شيوخ الدين عندما سنحت الفرصة، و سكت الأدباء والشعراء بنفس الوقت.
ويرى المتأمل في واقع الثقافة السورية الراهنة أن اليسار السوري الذي فتحت له منابر الإعلام سابقاً من قِبل النظام، قد سكت حائرأ أمام زخم الثورة الشبابية المُفاجئة، تاركاً المنبر لبعض الإعلاميين وأشباه المثقفين من أتباع النظام ليهللوا، ويُمجدوا ببقايا دكتاتورية تحشر أكثر إلى الزاوية كل يوم من قبل شعب خرج مارده من القمقم ورفض العودة إليه.
وإذ يبرر الكثيرون السكوت اليساري بالخوف من القمع والإعتقال والتعذيب، وإذ يذهب البعض إلى حدود إتهام المعارضة الإسلامية بشن حرب إعلامية موازية ضدهم، فإن واقع الأمر أن الكثير من مثقفي سوريا اليساريون، الذين عاشو مرحلة الستينيات الذهبية لم يستطيعوا هضم فكرة دعم ثورة تساندها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ولم يقبلوا أن يجدوا أنفسهم في صفوف المتفرجين بدلاً من المُنظرين، وعجبوا أن لا أحد قد جاء إليهم ليسأل رأيهم وخبرتهم النظرية في إدارة نضال الشعوب..
إن الكثير من جلسات النقاش الليلية التي خضناها مع بعض مثقفي سوريا اليساريين، والذين عاشوا في الغرب وأتقنوا لغاته وعاداته و طباعه، إنتهت باعترافهم بعد لف ودوران أن النظام السوري -رغم مشاكله- لم يخنع ووقف ضد المشروع الإمبريالي الأميركي في المنطقة.. ويسهب الكثير من هؤلاء -الذين طالما جاهروا بعدائهم للمد الإسلامي في المنطقة- بمدح إيران ودعمها لسوريا ضد المشروع الإمبريالي، وبتقديرهم لوقوف روسيا مع دول العالم الثالث ضد إستعمار أوروبا وأمريكا الثقافي.. و لا يترك بعضهم الفرصة ليعبر عن إمتعاضه من إحراق الأعلام الروسية والصينية على أيدي المتظاهرين، متهمين المتظاهرين بالجهل والتنسيقيات المحركة لهم بعدم النضج السياسي.. متناسين بنفس الوقت المئات التي ماتت بعد مهلة الموت التي أعطاها الفيتو الصيني -الروسي للنظام السوري.
أما نحن، شباب هذا الفكر الليبرالي الذين نقف ونساند ونعمل مع هذه الثورة منذ اليوم الأول، فلم نتوقف عن ترديد سؤالنا لهؤلاء المثقفون الكبار: كيف ومتى وقف النظام السوري ضد إسرائيل؟ وكيف نبرر "نضال" روسيا مع شعوب العالم الثالث ضد القواعد الأميركية الصاروخية، وننسى أنها أيضاً تبني قواعد عسكرية في كل مكان؟
ونسأل بحيرة، نحن الجيل الشاب الذي تَشرّب الفكر اليساري عن قناعة وليس كبدعة فرضتها حمى الستينيات الثائرة: كيف يكون دعم إيران للدول العربية في صراعها مع إسرائيل دعماً إقليمياً إستراتيجياً، وتكون حربها المعلنة ضد دول الخليج المجاورة (و العراق سابقاً) واقعة مبررة أو يمكن غض الطرف عنها؟
لم يستطع أحد من هؤلاء أن يجيبوا على هذه الأسئلة بشكل يشفي غليل جيل ترعرع وكبر في ظل القمع السياسي و الاجتماعي الدموي! تحت غطاء الممانعة والنضال ضد الإمبريالية..
كان أكثر هؤلاء وضوحاً في عدم قبوله للنقاش هو عميد إشتراكيي في السبعينيات "العربي الغاضب"، أسعد أبو خليل، رفض أبو خليل -المقيم في الولايات المتحدة- المبادرة الخليجية لحل أزمة اليمن لكون الديموقراطية لا يجب أن تأتي على أيدي دول النفط التي ولدت على يد الإمبريالية الأميركية في السبعينيات، وانتقد بشدة التحرر الليبي لأنه جاء على متن طائرات الناتو، وسخر من الحرية التي يطلبها الشعب السوري عندما طلب المتظاهرون تدخل مجلس الأمن، حاول الكثير منا النقاش مع أسعد أبو خليل على صفحات تويتر و فيسبوك، وقلنا بأن الشعوب التي تقتل كل يوم بالعشرات "تستحق الإستثناء من كليشيهات مناوئة الإمبريالية العالمية"، وإن هذه الأنظمة التي إنتفضت الشعوب ضدها هي مشروع غربي أساساً، زرع ودعم لتكريس تقسيمة عربية إقليمية، فكان مصير الكثيرون منا (بما فيهم كاتب هذه المقال) الحذف والمحي من صفوف قراء أبو خليل الإفتراضيون لمعارضتنا لرأيه، ضارباً بعرض الحائط كل مبادئ حريّة التعبير والديموقراطية.
ولا ينافس أبو خليل أحداً أكثر من أدونيس، شاعر سوريا "الكوني"، و الذي رفض الإعتراف "بثورة تخرج من جامع" ومن ثم كتب رسالة مفتوحة لبشار الأسد بعد أشهر من إنطلاق الثورة ليطالبه بالإصلاح وبإلغاء حكم الحزب الواحد، ظناً منه أن مشكلة الشعب الثائر الوحيدة -والذي كان قد فقد الآلاف من الشهداء من أجلها- هي إنعدام التعددية الحزبية وعدم الشفافية "فقط".
لعل هذه الازدواجية الخائفة أو النرجسية الفارغة، التي أثقلت من حراك اليسار السوري في الشهور العشرة الماضية، هي مشكلة اجتماعية سورية محلية وليست ظاهرة إيديولوجية خاصة باليسار بشكل عام، عندما اعتصم شباب نيويورك في "وول ستريت" احتجاجا على الاستغلال الرأسمالي لغالبية المجتمع، إنضم إليهم مايكل مور، ونعوم تشومسكي، وسلوفيج جيجيك من دون مسرحيات إعلامية هوليووديةـ ساهموا معهم في الصياغة الفكرية لوثيقة الاعتصام، و لم يبقوا في بيتهم ساكتين متفاجئين كيف تحرك الشباب دون استشارتهم، ولم يختبؤوا وراء شعارات العداء الأميركي التاريخي للشيوعية، و لم يسموا المتظاهرين بالهيبيين ومدمنوا المخدرات، و إن كانت هذه الشعارات سهلة وجاهزة في اللاوعي عند أي مواطن أميركي.
مرّت سوريا بفترة إنفتاح فكري غير مسبوقة في الستينيات، وازدهرت التعددية والديموقراطية والحرية لعشر سنوات قبل أن يأتي حكم البعث الثاني، بقيادة الأسد ليمحو كل انجازات فكر هذه الفترة، فكانت هذه الحريّة الفكرية قصيرة الأمد وهشة، ولم تترك عند الكثيرون أثراً أعمق من شعارات قرأوها ورددوها في وقتها، ولم يستطيعوا أن يروها تكبر وتتطور مع تطور المجتمع كما حدث في باد أخرى.
تعامى كبار اليساريون عن أولادهم وأولاد مواطنيهم وهم يكبرون على الإنترنت و يشاهدون الأفلام العالمية بعد صدورها بأيام، وبأسعار أبخس من ثمن علبة دخان..! و لم يدركوا وهم يقرؤون قصائد نيرودا للمرة المئة أن فيلم "في فور فينديتا - V for Vendetta" الهوليوودي الإمبريالي الرأسمالي، قد زرع في اللاوعي عند أبناؤهم معاني المقاومة والحريّة أكثر من كتاب سيرة حياة سيمون بوليفار، وإن تشي غيفارا في هذه الأيام هو رمز للحريّة فقط، وليس رمز للنضال اليساري الشيوعي اللاتيني ضد الإمبريالية.
لا أحد من الثوار موافق أو معجب بتاريخ أميركا وأوروبا الأسود في المنطقة، ولا أحد من الثوار الذين مزقوا صور نصرالله -رداً على موقفه المشين من الثورة- قد نسي دموع الفخر لإنتصار حزب الله على إسرائيل في العام ٢٠٠٦.. و لكن البراغماتية التي إكتسبها جيلنا مع الإنترنت، والتي يفتقدها جيل مثقفوا يسار السبعينيات، قد علمتهم حقيقة أساسية هي أن سوريا والحريّة يأتون أولاً، وتأتي الشعارات الفكرية لاحقاً، و يبقى الشعار الوحيد الذي ردده المتدينون والعلمانيون والملحدون سوية، راسمين بذلك ملامح دولة مدنية وتكافل وطني غير معلنين بعيداً عن الإيديولوجية المستوردة، وهو الشعار الذي ردد في المظاهرات التي خرجت من الجوامع بالرغم من تحفظات أودونيس و غيره: الله، سوريا، حريّة و بس!
No comments:
Post a Comment