6/16/11

اللامركزية و سوريا الحديثة

لقد كانت التجربة الديغولية في فرنسا،  و التي يمكن اعتباها واحدة من أكثر التجارب اليسارية اثارة للاهتمام، واحدة من الحالات القليلة التي دعت الى، و طبقت اللامركزية بشكل حقيقي و بكل الأبعاد الممكنة للمفهوم. 
و هذه اللامركزية التي نتكلم عنها هنا هي لامركزية الحكم، و التي هي اساس النظام الديمقراطي الصحيح الذي يهدف الى الغاء البيروقراطية و تدعيم مراكز اتخاذ القرار المحلية التي هي أكثر قدرة على تقييم و تحليل المعطيات قبل اصدار القرار بحكم استقلاليتها.

ولكن الجانب الآخر لمفهوم اللامركزية، و التي طبقته فرنسا الديغولية بشكل ناجح، هو لامركزية المدن و الثقل التجاري، و هي واحدة من أهم المفاهيم التي يجب أن تأخذ بعين الأعتبار عند دراسة و تحليل الوضع السوري المعاصر.
لقد عملت الحكومة الفرنسية أيام ديغول على دعم المدن الفرنسية بشكل متساوي، و شجعت ظهور جامعات و مراكز تعليمية أكبر و بأهمية تساوي تلك التي في العاصمة باريس . كما عملت  على تشجيع المشاريع البيئية و السكنية و الصناعية في مدن أخرى و قدمت مساعدات مالية و اعفاءات ضريبية لمن يريد بدء مشروع معين في تلك المدن.
هكذا، و ان كانت باريس لا تزال المدينة الرئيسية و مقصد المهاجرون الأول عند القدوم الى فرنسا، و لكنها تبقى اختيارا شخصيا لفرنسي يبحث عن فرص عمل و حياة افضل . فهو عنده الاختيار بين ليون و نانت و تولوز و مارسيليا و بوردو، و كلها توفر فرص عمل جيدة و  مهمة ، و تنافس باريس من حيث نوعية الحياة و رخص المعيشة.

هذا النموذج السياسي و الاجتماعي قد يقدم الكثير من الحلول لمشاكل االدولة السورية المعاصرة و خصوصا لمشاكل الهجرة و السكن و فرص العمل للشباب.

 عبر العقود الخمسة الماضية، تم تهميش و تفقير الكثير من المدن السورية لأسباب سياسية و اجتماعية عديدة، و تم التركيز على جعل دمشق و حلب المركزان الأساسيان للصناعة و التجارة و الأمور الخدمية مما أدى الى ازدياد الهجرة اليهما و استنزاف الطاقات و الكوادر من بقية المدن السورية.

هذه الحالة، و ان كان يمكن تعميمها على عواصم أكثر مدن العالم، كان لها جانب سياسي خفي هدفه احكام السيطرة على الموارد الأقتصادية الأساسية و تملكها بشكل كامل أو جزئي من قبل ازلام النظام، و الحفاظ على رؤوس الأموال الأساسية تحت رقابة لصيقة من قبل الأجهزة الأستخبارية منعا من أي حراك سياسي أو انفصالي ممول من هؤلاء التجار.

هناك جانب آخر ذو ابعاد اجتماعية مدروسة، و هو زيادة الخليط الأجتماعي و العرقي في هذه المدن و دعم ظهور طبقة غنية جديدة و غريبة عن سكان المدينة الأصليون . ان فقدان هذا التجانس الاجتماعي و خلخلة نسيج المدينة بزرع المستفيدون من وجود هذا النظام بين سكان المدينة، أدى - كما لحظنا في هذا الحراك الثوري الحالي - الى صعوبة قيام حراك منظم و مخطط في مدينتي دمشق و حلب كما في بقية المحافظات،  و ارتفاع ملحوظ في نبرة التناحر و اللوم بين أولاد المحافظات المختلفة.

كانت احدى توصيات فريق عمل التخطيط الاقليمي في سوريا، و الذي تم تمويله و دعمه بالخبراء و الباحثون من قبل الأتحاد الأوروبي ، هي نقل العاصمة الادارية الى مدينة حمص و دعم نشوء مناطق صناعية أكبر في حلب .
 هذه الخطوة كانت ستجعل من دمشق العاصمة السياسية و الخدمية ، و من حلب العاصمة الصناعية و التجارية -مما سيفتح فرص عمل اكبر لسكان المنطقة الشرقية، و حمص العاصمة الادارية حيث يتم نقل أغلبية الوزارات و الادارات الى هناك. هذا التقسيم الوظيفي سيؤدي الى توزع مراكز الثقل بشكل ممتد جغرافيا و انتشار التطور الاقتصادي للمدن و الضواحي المحيطة بهذه العواصم الثلاثة.

 هذه الخطوات كان من المممكن ان تنشط قطاع النقل البيئي و النقل التجاري المنظم بين المحافظات بشكل أكبر ، و ان تهيء لنشوء ضواحي سكنية  جديدة و منظمة على أطراف المدن ، و تأمين الآلاف من فرص العمل لبناء بنية تحتية معلوماتية تتيح الوصل الافتراضي بين هذه العواصم.

هذه اللامركزية المدينية ستؤدي أيضا الى تحسين الجامعات و الخدمات التعليمية في بقية المدن عبر اعطاء الأهمية و الدعم للكليات و الاختصاصات الجامعية الأكثر علاقة بالوظائف الحيوية لخصوصية المنطقة المحيطة بها و طبيعة العمل المتوفر هناك . هذا سيساعد  على تخفيف حدة استنزاف العقول و هجرة الكوادر ، و سيشجع الشباب على التنقل أكثر بين المدن السورية و التعرف على واقع معيشي و اجتماعي يتجاوز حدود مدنهم الحالية و الأصلية.

ان غنى سوريا بالموارد الطبيعية و موقعها الجغرافي و حدودها الاستراتيجية ، بالاضافة الى العامل السياحي ، كفيل بتأمين غنى اقتصادي كاف لتحسين معيشة الكثير من السكان بشكل ملحوظ . ان الشرط الأساسي للبدء بهذه الاصلاحات هي الشفافية و الحرية و استقلال القضاء ، ووجود جهاز تخطيطي مستقل يعمل لتحسين المعيشة في البلد و توزيع الخيرات على الجميع و ليس على قلة حاكمة تسعى لتوجيه تطور البلاد لمصلحة بقائها فقط .

تم نشرها أيضا في مدونة حوار اليسار http://hiwar-alyasar.blogspot.com

No comments:

Post a Comment